عجزت الأحزاب السياسية اليمنية (التقليدية) خلال الفترة الماضية من سيطرتها على السلطة عن أن تحمي مؤسسات الدولة من الفشل والسقوط، بل زادت وقادت المجتمع إلى حافة الانهيار، بحيث ارتفعت نسبة الفقر في البلاد وفقا للبنك الدولي (مكتب بصنعاء - 2014م) إلى 54.5 في المائة، أي أن نحو 12 مليون مواطن يمني يعيشون تحت مستوى خط الفقر، وارتفع معدل البطالة في أوساط الشباب إلى 60 في المائة، وسجل الاقتصاد الوطني انكماشا مخيفا منذ العام 2011م، وتوقفت الحياة مقابل انتشار الفوضى والفساد، وسيطرت لغة السلاح والموت.
أستطيع أن أقول بثقة، بأن هذه الأحزاب التي تتحاور في «موفمبيك صنعاء» منذ مارس (آذار) 2013م، وصلت إلى حالة من الإفلاس الشديد، فهي تدور في حلقة مفرغة، ولم تتمكن بحواراتها المكوكية من أن تقف موقفا جادا ومسؤولا واحدا أمام هذا التدهور المخيف الذي يلتهم الوطن والمواطن، وإنما هي - للأسف - تتحاور فقط على الحصص، وتتسابق على ما سينوبها من مواقع وظيفية على أطلال دولة، ومعاناة وطن، وكأن تداعيات الأحداث والمواقف الدولية والإقليمية تجاهها لا تعنيها لا من قريب ولا من بعيد.
أكتب هذه الكلمات وأنا على قدر كبير من المرارة والألم، لأنني كغيري من أبناء الوطن اليمني نتوجع لما وصل إليه الحال في البلاد، بمعنى أننا حينما نتحدث عن عجز هذه القوى والأحزاب لا نقصد التجني عليها، ولا نستهدف أحدا من زعاماتها، لكن هذه الأحزاب، وهي تحكم باسم الوطن وتعارض باسمه خلال عمر ثلاثة أجيال يمنية يجب أن تراجع دورها في إدارة الشأن العام، ويجب أن تتحمل مسؤولية فشلها وتعترف به.
فهذه الأحزاب اليمنية على كثرتها واختلاف مسمياتها، وألوانها، وتفرعاتها وانشقاقاتها ليست على وفاق حتى مع نفسها ومع أسمائها، فكيف يمكن لها أن تكون على وفاق مع الشعب.. فهناك (مثلا) ثلاثة أحزاب باسم الناصرية، وأربعة باسم البعث، وخمسة باسم الاشتراكي، وعشرة باسم الإسلام السياسي، وكلها لم يعد حتى للآيديولوجيات التي نشأت على قاعدتها وجود أو أثر، فالاشتراكية، والبعثية والناصرية، قد تلاشت أفكارها واندثرت في بلدان منشئها.
والأصل في الآيديولوجيات الفكرية والعقدية هو قدرتها على البقاء ليس من خلال اليافطات والشعارات التي ترفعها أحزابها وتنظيماتها السياسية في أعيادها ومناسباتها، وإنما من خلال قدرتها على التعامل مع معطيات العصر، وقدرتها على الصمود في مواجهة الأحداث والمتغيرات التي تهدد مجتمعاتها.
فالاشتراكية العلمية سقطت حينما لم تتمكن من استيعاب إصلاحات «البروسترويكا» و«الغلاسنوست» التي اجتاحت جمهوريات الاتحاد السوفياتي في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وسقطت بالتالي الأنظمة الاشتراكية التي كانت تدور في فلكها، كما سقط فكر البعث القومي العربي حينما انقسم إلى بعثين ودولتين في بغداد ودمشق، وحينما انزلق إلى العنف ولم يتمكن من المقاومة في حرب الخليج الثانية في مطلع التسعينات، والناصرية تراجعت وماتت بموت الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وانفرط عقدها بانفراط عقد الوحدة المصرية - السورية في ستينات القرن الماضي أيضا.. أما أحزاب الإسلام السياسي فقد سقطت هي الأخرى حينما جزأت الإسلام إلى مذاهب وفرق متناحرة متقاتلة تذبح بعضها وتذبح الآخرين وتقتل الناس بفتاوى ليست من الإسلام ولا من الدين في شيء.. وسقطت حينما أساءت للإسلام وقدمته للعالم ليس بكونه دين محبة وسلام وإنما بكونه دين عنف وقتل وتدمير، فضلا عن عدم قدرتها على التعامل مع مجتمعاتها إلا عبر التكفير والترهيب وفرض نفسها بقوة السيف والسلاح.
إذن، فهذه الأحزاب اليمنية القديمة لم تعد تنطلق من واقع برامج فكرية، بقدر ما هي تعبر عن توجهات زعامات سياسية توقفت مع الماضي، وانقطعت صلتها بالعصر، بمعنى أنها لم تعد قادرة على التعبير عن تطلعات المرحلة الراهنة، ولذلك فشلت في معالجة المشكلة اليمنية، وأوصلت البلد إلى حالة الانهيار ودق طبول الحرب.
ومن هنا، فإن هذه الأحزاب والقوى التي تتباكى اليوم على الشرعية التي انتهكها الحوثيون بقوة السلاح وفرض سياسة الأمر الواقع، هي لا تتباكى على الشرعية الوطنية المنتهكة، وإنما هي تتباكى على «شرعية» ليست طرفا فيها.. ذلك لأن هذه القوى هي من تآمرت على مؤسسات الدولة، وهي من عملت على تفكيكها وانهيارها، وهي من أوصلت الحوثيين إلى دار الرئاسة، وهي من انتهكت الشرعية الدستورية.. وهنا دعونا بصراحة، ومن دون تعصب أو تجريح نطرح بعض الأسئلة المجردة للحركة الحوثية ولهذه القوى الحزبية التي تدَّعي جميعها «شرعية» تمثيل الشعب:
- من هو الشعب الذي فوض هذه القوى والأحزاب بأن تتحدث باسمه، وتحكم باسمه، وتحاور باسمه، وتدعي تمثيل مصالحه؟! رغم أن شرعية آخر انتخابات دستورية برلمانية انتهت في العام 2008م؟!
- أليست هذه الأحزاب هي التي ظلت تشكك في شرعية مجلس النواب، وعطلت الكثير من قراراته لأنها اعتبرت نفسها البديل الشرعي للمجلس وللدستور؟!
- ثم أليست هذه الأحزاب هي التي انقلبت على المبادرة الخليجية، وتجاوزت آليتها التنفيذية المزمنة في العام 2014م؟!
- ألم يوقع قادة هذه الأحزاب والحوثيون (أنصار الله) اتفاق السلم والشراكة، وانقلبوا عليه وهم جميعا خارج إطار الشرعية؟!
كل هذه الأسئلة تحمل إجاباتها في طيها.. ولذلك لم نعد ندري من يمثل الشرعية الوطنية في القرار السياسي اليمني، ومن هو المدافع الحقيقي عنها؟!.. فهذه الأحزاب والحركات المسلحة بما فيها الحركة الحوثية ليست مفوضة ولا منتخبة من الشعب، وبالتالي هي لا تمتلك أي شرعية دستورية أو سياسية في تمثيله، وإنما هي تفرض نفسها بقوة السلاح، وتلجأ إلى تزييف الوعي في أحسن الأحوال، فقد رفضت الدخول في انتخابات 2008م لمبررات عقيمة وواهية، وهي التي أدخلت البلد في دوامة التشظي والانقسام.
كلهم يتحدثون باسم الشعب ويدَّعون تمثيله، وهم جميعا لا شرعية لهم، وكلهم لا يختلفون عن بعضهم في شيء، والفرق هو فقط في المسميات، ونوعية الولاءات والمرجعيات الخارجية، فالوطن في قاموسهم ليس أكثر من كعكة يتقاسمونها، والديمقراطية والعدالة والحقوق والمساواة، والشراكة، عندهم هي شعارات في معظمها مضللة وكاذبة.. فهم في الواقع لا يتشاركون إلا مع أنفسهم، ومع أهلهم وأقاربهم، ولا يعترفون إلا بحقهم وبالعدالة التي تنصفهم وحدهم.. وبالنتيجة تجدهم يدورون كما يدور «جمل المعصرة»، يعصرون الشعب كما يعصر الجمل الزيت، وهو لا يدري ما يفعل، وإلى أين يتجه..!!
وهذا هو حال أحزابنا..
الشرق الأوسط
د.عبدالوهاب الروحاني
الأزمة اليمنية وأحزاب الموفمبيك..! 1078