ذكرت لكم سابقاً أن التاريخ يعيد نفسه فقط على الأمم المغلوبة الممزقة الضعيفة، التي أسست ملكها على أساس هشٍّ، ولم تبن ملكها على أساس من تقدير المواطن وإكرامه ورفع قدراته، وبناء المؤسسات العامة على أفضل الممارسات الحكومية، معتمدة على العلماء والخبراء ومكافحة الفساد الإداري، وتقليل نسبة الأمية بين الناس.
وبذل الغالي والنفيس لإسعادهم، كما نراه اليوم وسابقاً في الدول المتقدمة، وإنّ كل دولة تتخلى عن مقومات الحكم الرشيد وتعتمد على البطش والتنكيل وإشاعة الفساد بين موظفي الدولة من أجل نهب الثروات العامة وعدم التخطيط لمستقبل مواطنيها، فإنها بلا شك ستكون سهلةً طيّعةً لدخول الأعداء وتغلغل أفكار الطامعين، بل سيتمكن الأشرار من زرع دعاتهم وأعوانهم في كل أرجاء البلاد، من أجل زعزعة الأمن الداخلي.
وتكوين ثورات خطيرة بين الفئة التي ترى نفسها مظلومة وليس لها نصيبٌ من الحكم ولا من الثروات المنهوبة، وعلى هذا يكون الطامع قد استدرج السذّج من الشعب بآرائه، عن طريق دعاته وأمواله، وقادةُ الدولة في غفلةٍ عنهم، لأنهم مشغولون في أمورٍ يظنونها كبرى ويغفلون عن هذه الطبقة المنسية، التي ستستيقظ يوماً ما وتستولي على زمام الملك، كما حصل أمام أعيننا منذ أيام في اليمن الحزين.
بداية الدعوة الإسماعيلية في اليمن
عندما بدأ الضعف يدبُّ في جسم الدولة الزيادية في منتصف القرن الثالث الهجري، انتهز الفرصة إمام الإسماعيلية محمد الحبيب، الذي كان يعيش في منطقة من مناطق حماة تدعى (سلمية)، فبعث علي بن الفضل اليماني وأبا القاسم رستم بن الحسين بن حوشب الكوفي لنشر الدعوة والتبشير بظهور المهدي المنتظر.
كما يفعلون هذه الأيام، فوصلا اليمن في سنة (278هـ) وأخذا ينشران الدعوة بكل اطمئنان ونشاط، لأنّ الدولة حينها في أضعف أوقاتها، وهي في غفلةٍ كاملةٍ بما يراد لها، ثم كوّن ابن حوشب جيشاً من أتباعه، وبنى حصناً في جبل (لاعة) قريباً من صنعاء، فزحف بجنوده عليها وأخرج بني يعفر منها، ثم قام مباشرةً بنشر دعاته إلى كل أنحاء اليمن للدعوة إلى الإسماعيلية، وتمكن من مدّ نفوذه والتغلب على ولاتها.
بعد هذا الانتصار الكبير سمى ابن حوشب نفسه منصور اليمن، وأرسل الهدايا الكثيرة والأموال إلى إمام الإسماعيلية في (سلمية) محمد الحبيب ولابنه عبيدالله، فسُرّ إمام الإسماعيلية بما حققه في اليمن، فبعث لابن حوشب داعياً من داعته يدعى ابن زكريا الشيعي، وأمره بالاقتداء بسيرة ابن حوشب، ثم يرحل إلى المغرب لنشر الدعوة هناك.
الانتقال إلى المغرب
بعد انتشار الدعوة الفاطمية في المغرب ووفاة محمد الحبيب أخذ الإمامة من بعده ابنه عبيدالله، فزاد من دعاته لنشر فكره في كل مكان يجده ممهداً له، خاصة أنه كان يبذل الأموال الكثيرة من أجل تحقيق هدفه، كما تفعل اليوم إيران، التي سخّرت كل ثرواتها لهذا الغرض نفسه.
وهي قارئة جيدة للتاريخ، وتستفيد منه بذكاء على حين غفلةٍ من الدول المنكوبة، التي تسقط في أيديهم دولةً دولةً، ولا أحد يستطيع أن يقدّم أو يؤخر أو يدفع هذه المصائب التي تسقط على رؤوس العرب كل ساعةٍ وحين.
اكتشف الخليفة المكتفي العباسي هذه الدعوات الخطيرة من دعاة عبيدالله المهدي الفاطمي، ولكنه كما نقول في أمثالنا العامية: «اكتشفها بعد الغارة بيوم»، أي عرف المصيبة التي حلّت ببلاد اليمن والمغرب متأخراً، فأرسل أعينه لرصد تحركات عبيدالله ودعاته، ولكنه هرب هو وابنه نزار.
وأشاع أنه متجه إلى اليمن ليقيم دولته هناك، ولكنه في الحقيقة يريد أرضاً بعيدة عن نفوذ العباسيين، فاختار الرحيل إلى المغرب، التي يراها أنّها المكان الأفضل لإقامة دولته بعيداً عن قوة الدولة العباسية ونفوذها. هذا وللحديث بقية.
البيان الإماراتية
جمال بن حويرب المهيري
تاريخ النفوذ الفاطمي في بلاد اليمن 1 1060