بعد عام تقريبا على آخر قرار له بشأن اليمن، ها هو مجلس الأمن الدولي يصدر قرارا جديدا هو الرابع منذ انطلقت الثورة اليمنية السلمية في فبراير/ شباط 2011، إلا أنه- حسب الكثيرين- لم يرق إلى المستوى المطلوب مقارنة بسابقه، ولما تمر به البلاد من اضطرابات سياسية تقربها أكثر من شبح الحرب الأهلية.
"الحرب الأهلية".. هذا الشبح المخيف، الذي كان قد توارى إلى حد ما عن حياة اليمنيين تقريبا منذ النصف الثاني للعام 2012 وحتى مطلع العام 2014، قبل أن تعيده مليشيا الحوثي تدريجيا إلى السطح مرة أخرى.. ومع نهاية العام الماضي ومطلع العام الجاري، وبفعل تحركاتها المسلحة، "تعملق" هذا الشبح ليطغى أكثر ويثير المخاوف ليس في اليمن فحسب، بل وعلى المنطقة العربية والإقليمية برمتها.
وفي السادس من فبراير/ شباط الجاري، انتهت التحركات المسلحة لجماعة الحوثي بتنفيذ انقلاب شبه كامل على السلطة عبر فرض ما سمي بـ"الإعلان الدستوري"، الذي حل بمقتضاه مجلس النواب الشرعي، وجعل ما تسمى بـ"اللجان الثورية" الحوثية حاكمة للبلاد.
أمام وضع جديد ومقلق كهذا، بدا وكأن دول الخليج التي لطالما اعتبرت اليمن عمقها الإستراتيجي، بدأت باستعادة صحوتها، وإن جاءت متأخرة قليلا، وربما كثيرا بحسب البعض، إلا أنها أفضل من مواصلة الانكفاء السياسي تحت تأثير الصدمات الأخيرة المتوالية.
صحوة خليجية
منذ بدأت أجراس الخطر تقرع تباعا من محافظة عمران وحتى العاصمة صنعاء، ظل موقف دول الخليج مشوشا إلى حد كبير، حيث اعتقد أنه بسبب وقع الصدمة الأولى، بكون حليفها القديم "صالح" أوقعها في شباك وعود لم تتحقق على الأرض إلا بطريقة عكسية تماما.
وعقب وفاة العاهل السعودي، الملك عبد الله، ليلة استقالة الرئيس هادي وحكومته، شرع الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز بإحداث تغييرات وظيفية كبيرة في أجهزة الدولة طالت أبرز وأهم صانعي السياسة السابقة.
في 14 فبراير/ شباط الجاري تبنت دول الخليج صيغة مشروع قرار جديد لمجلس الأمن، تضمن عبارات صارمة ضد جماعة الحوثي التي وصفها بـ"الانقلابية"، وطالب بضرورة اتخاذ إجراءات حاسمة مقترحا الانتقال إلى الخطوة التالية: اتخاذ قرار دولي يضع اليمن تحت إجراءات تنفيذية للبند السابع. لكن روسيا أعاقت صدور القرار، كما يقال، بحجة تضمنه عبارات شديدة ضد الحوثيين المتحالفين مع حليفتها الإستراتيجية في المنطقة (إيران).
ولتدارك الموقف، وحفاظا على الانسجام الذي اتسم به المجتمع الدولي إزاء ملف اليمن، سارعت بريطانيا والأردن إلى تبني مشروع قرار جديد، بني أساسا على المشروع الخليجي السابق لكن مع تعديلات بسيطة عمدت إلى إزالة تلك العبارات وتعديلها.
وقبل يوم من التصويت على القرار، عقد وزراء خارجية الخليج اجتماعا طارئا في الرياض انتهى إلى تبنى بيان شديد اللهجة ضد الحوثيين، تضمن كل ما رفضته روسيا في مشروع القرار، بما في ذلك المطالبة بوضع اليمن تحت تصرف البند السابع. بل إن البيان الخليجي خلص في نهايته إلى ما يشبه التحذير والتهديد من أن "دول المجلس ستتخذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على مصالحها الحيوية في حال عدم التوصل إلى حل للأزمة وفق نتائج الحوار الوطني والمبادرة الخليجية".
بين قرارين
في 16 من الشهر، صوت مجلس الأمن بالإجماع على مشروع القرار البريطاني الأردني الجديد رقم 2201 (سنة 2015).
وكما أسلفنا سابقا، فقد بني القرار على صيغة المشروع الخليجي مع التخفيف من حدة العبارات الباعثة على القلق الروسي. فهو يشجب بشدة -(بدلا من "يدين بشدة")- الإجراءات -(بدلا من "الانقلاب")- "التي اتخذها الحوثيون لحل البرلمان والاستيلاء على المؤسسات الحكومية في اليمن، بما في ذلك أعمال العنف". كما أنه وبدلا من وضع اليمن تحت طائلة البند "السابع" الملزم، عاد به إلى الوراء نحو البند "السادس" غير الملزم!
وإجمالا فإن أهم ما ركز عليه البيان، الذي احتوى على 15 فقرة، هو ضرورة أن يلغي الحوثيون كل إجراءاتهم الأخيرة في السيطرة على مؤسسات الدولة الشرعية والعسكرية، وإعادة الأسلحة المنهوبة ومغادرة مؤسسات الجيش والأمن، والإفراج عن جميع الأفراد تحت الإقامة الجبرية، أو الاعتقال التعسفي بمن فيهم رئيس البلاد ورئيس حكومته، ونبذ أعمال العنف لتحقيق أهداف سياسية، والامتناع عن الاستفزاز وإلغاء جميع الإجراءات الأحادية التي تقوض عملية الانتقال السياسي.
وربما كان الأهم هنا، حسب مراقبين، حرص المجلس على ضرورة أن ينفذ كل ما جاء في القرار في غضون 15 يوما، وكلف الأمين العام للأمم المتحدة برفع تقرير بعد هذه المدة، معلنا استعداده "لاتخاذ المزيد من الخطوات في حال عدم التنفيذ من قبل أي طرف يمني لهذا القرار".
قد تبدو التساؤلات الملحة الآن هي: هل سينفذ الحوثيون القرار؟ وماذا لو لم ينفذوا: ما الخيارات المتاحة للمجتمع الدولي؟ وهل لدى دول الخليج خيارات منفردة، في حال لم يتم التنفيذ وتباطأ المجتمع الدولي في التزام مسؤوليته كعادته؟
ولكي نصل إلى أجوبة مناسبة أو قريبة، سيتوجب علينا أولا أن نتساءل: هل كان مطلب دول الخليج منطقيا، بينما جاء القرار الدولي الأخير مخيبا للآمال؟
ولمعرفة ذلك علينا أولا أن نعرف أن قرار مجلس الأمن الأخير جاء بعد ثلاثة قرارات سابقة صدرت بشأن اليمن، يعتقد أنها اتسمت بتسلسل تراتبي منطقي، بحيث كان يفترض معها الوصول إلى إجراءات البند السابع الخاصة بفرض تنفيذ القرارات.
وكان القرار الثالث رقم 2140، لسنة 2014، أقر "وضع اليمن تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة"، وبدأ بفرض عقوبات على كل من يعرقل العملية السياسية، وهدد أيضا باستعداده لاتخاذ تدابير أكثر صرامة في حال لم يتم التنفيذ.
لكن القرار الأخير رقم 2201، المتخذ في 16 فبراير/شباط الجاري، وبدلا من المضي في النسق التصعيدي نفسه، وجدناه يتراجع خطوة إلى الوراء بوضعه اليمن تحت "البند السادس" غير الملزم! وإن عبارة "المزيد من الخطوات" التي هدد مجلس الأمن بإعلان استعداده اتخاذها إذا لم ينفذ قراره، لن تخرج -حتى الآن- من إطار القرار السابق (2140)، بفرض عقوبات على القيادات المعيقة لمسار العملية السياسية، ولا تتجاوز المنع من السفر وتجميد الأموال والأصول المالية.
وعليه يرى معظم اليمنيين أن اتخاذ المزيد من العقوبات في إطار القرار الجديد، لن يؤثر كثيرا على الوضع الراهن، بل قد يمنح الحوثيين -كما حدث سابقا- المزيد من الوقت والفرصة لفرض المزيد من التوسع والسيطرة، وهذه المرة ربما يصل الأمر إلى الاقتتال الأهلي، أخذا بالاعتبار رغبة الحوثيين في السيطرة على منابع النفط في محافظة مأرب القبلية التي تعد منذ أشهر مسلحيها لمواجهة تلك الرغبة.
لذلك، فإنه وحتى هذه اللحظة لا يزال خيار التدخل العسكري الخارجي في اليمن مستبعدا، سواء عبر ما سبق تفصيله إجرائيا، أم حتى عمليا على أرض الواقع، حيث يسيطر الحوثيون على نسبة كبيرة من المحافظات الشمالية، في الوقت الذي انهارت فيه المؤسسة العسكرية اليمنية التي بات من الصعب الاعتماد عليها بدعمها خارجيا في سياق ما يتطلبه أي تدخل عسكري خارجي من ضرورة وجود قوة عسكرية محلية على الأرض.
خيارات الخليج الانفرادية
مع كل ما سبق، ما زالت دول الخليج تبعث رسائل أخرى بخياراتها المتاحة للمجتمع الدولي والحوثيين على السواء. مما قد يمكن اعتبارها رسائل ضغط وتهديد ممكنة التنفيذ في حال تقاعس المجتمع الدولي مجددا بعد انقضاء المهلة.
وقال وزير الخارجية القطري خالد العطية لصحيفة الشرق الأوسط إن دول الخليج ستتخذ بشكل جماعي ما من شأنه حماية مصالحها تحت مظلة قرارات الأمم المتحدة.
وقبلها، نقلت صحيفة "الاقتصادية" السعودية، عن مسؤول خليجي تأكيده أن سحب السفراء من اليمن، وعلى رأسهم السفير السعودي هو "تحرك سياسي ذو ارتباط اقتصادي" وأن "كل شيء وارد في المستقبل، وأي تحرك سياسي قد يتبعه آخر اقتصادي".
ومع أن المسؤول الخليجي أشار إلى أن دول المجلس تتريث في المرحلة الراهنة في فرض عقوبات اقتصادية على اليمن بهدف إفساح المجال أمام الحلول السياسية المحلية والدولية. إلا أن صحيفة "الخليج" نقلت عن مصادر مطلعة ترجيحاتها بأن يبادر وزراء الخارجية، في حال فشلت جهود المبعوث الدولي في تسوية الأزمة اليمنية، إلى فرض عقوبات على الحوثيين، تتضمن عدة خيارات.
ومما ذكرته تلك المصادر في هذا السياق: إيقاف المساعدات والمنح التنموية، وسحب أي ودائع مالية قدمتها أي دولة خليجية لمساعدة الحكومة على الحفاظ على استقرار أسواق الصرافة في البلاد. وقدمت السعودية في وقت سابق وديعة لليمن بمقدار مليار دولار.
طبيعة الموقف الأميركي
قد يبدو هذا الموقف الخليجي متأخرا قليلا، إلا أنه من المهم الإشارة إلى أنه يأتي في ظل تقاعس دولي كبير عما يجري في اليمن، ولا سيما الموقف الأميركي إزاء جماعة الحوثي.
ومع أن أميركا تعد السعودية حليفا قويا لها في المنطقة، شهد هذا التحالف ركودا واضحا على حساب تفضيل أميركا نسج تحالفات جديدة لا تضع في حسبانها سوى مسألة رئيسية واحدة: القضاء على تهديد تنظيم القاعدة.
ولكون السعودية، ومعها دول الخليج، تضيف إلى تهديد الجماعات الإرهابية في المنطقة تهديدا آخر أكثر قلقا هو الحوثي في اليمن، كونه يمس أمنها ومصالحها الحيوية بشكل قوي ومباشر، فإن الموقف الأميركي المتقارب مع هذه الجماعة امتدادا لتحالفها مع إيران ضد داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، شكل لها أزمة وتشويشا ربما أدى إلى ترددها وبالتالي تأخرها في ترتيب موقفها إزاء مواجهة مشكلتها الرئيسية الكبرى في اليمن.
ولم تخف واشنطن علاقتها التقاربية مع جماعة الحوثي مؤخرا لجهة مصلحتيهما المشتركة في عداء ومحاربة تنظيم القاعدة. وتجلى ذلك التحول الأميركي نحو الجماعة، التي ما زالت تجاهر ظاهريا بعدائها لها عبر ترديد شعارها الرئيسي "الموت لأميركا.."، من خلال مواصلة الإدارة الأميركية ضرباتها الجوية ضد القاعدة باليمن رغم الاضطرابات السياسية والأمنية التي تعيشها البلاد في ظل استقالة حليفها السابق الرئيس هادي، وسيطرة الحوثيين على السلطة.
وكشفت صحف ومجلات أميركية وعلى لسان مسؤولين أميركيين رفيعين وخبراء ومحللين طبيعة ذلك التحالف الجديد القائم على مصلحة العداء للقاعدة، حيث عده البعض ضروريا وبراغماتيا يبحث في مصلحة الأمن القومي الأميركي الذي ينظر إلى قاعدة اليمن على أنها من أقوى فروع التنظيم "الإرهابي" الدولي وتشكل تهديدا مباشرا لها، فقد وصفه آخرون على أنه يمثل تناقضا فظا ويهدم المبادئ والقيم الأميركية القائمة على نشر الديمقراطية والعدالة والمساواة وحرية الشعوب.
ويعتقد محللون أن موقف واشنطن ذاك من شأنه أن يبعث الإحباط في نفس الحليف الأقوى في المنطقة منذ عقود طويلة (السعودية)، بل قد يخسره لمصلحة حليف جديد هو إيران التي من المرجح أن تنقلب على هذا التحالف المصلحي الطارئ بمجرد انتهاء مبرراته.
وعليه، يعتقد أيضا أن واشنطن التي لم تعترض على قرار مجلس الأمن الأخير، ساعدت بشكل واضح في إيصال القرار إلى مثل تلك الحالة من الضعف، مما يعني -ترجيحا- أنها ستعمل على عدم إيصال التوافق الدولي إلى "البند السابع" الموجب لاتخاذ إجراءات عسكرية أو اقتصادية لفرض قرارات المجلس.
ويقود هذا الأمر بدوره إلى إمكانية أن تعمل أميركا -وربما سيكون ذلك بشكل معلن في المستقبل- على تمييع أي مقررات خليجية انفرادية ضد جماعة الحوثي.
الجزيرة
عبد الحكيم هلال
اليمن..صحوة الخليج في وجه التقاعس الدولي والأميركي 1151