ليس أمراً هيناً, ولا مشكلة بسيطة, ولا فورة عابرة, تصاعد أنشطة الحركات الجماهيرية, بشتى صنوفها على الساحة اليمنية مؤخراً!
إنه لمن المؤسف أن أقول بأنه من الكوارث العظمى على وطننا اليمن أرضا وإنسانا, تكاثر مثل هذه الحركات الرافضة للتأطر, وفي هذه المرحلة الحرجة من تاريخ اليمن الحديث!
ليس لأن جميع الحركات سيئة, ولا لأن بعضها يتخذ العنف وسيلة لبلوغ الأهداف؛ بل لأن السمة العامة لأفراد الحركات الجماهيرية هي تسلط شعور الإحباط عليهم, واستعدادهم _ مثلهم مثل أيّ حركة جماهيرية عبر التاريخ _ لتدمير وطنهم وشعبهم قبل أن يستسلموا!
هذا ليس كلامي؛ بل هو تقرير الباحثين والمصنفين في ظاهرة الحركات الجماهيرية..!
كنت أتمنى- وأنا أبحث في هذا الشأن, وأضاعف من حجم قراءاتي حول هذه الحركات- أن أجد عدم تشابه بين صفات وأشكال الحركات في بلادنا, وأشكال وصفات وغايات ونفسيات الحركات الجماهيرية عامة, بنوعيها الإيجابي والسلبي؛ لكن الذي حدث هو العكس تماما؛ لقد وجدت أن جميعهم ينزعون من بئر واحدة؛ بل أنهم متشابهون لدرجة التناسخ!
تكمن خطورة الحركات الجماهيرية في كونها تنطلق من عقيدة تبغض الحاضر وتسعى لتدميره؛ لكي تبني- حسب زعم قاداتها- الغد المنشود, والذي يكون دائما شبه مستحيل!
عندما أقرأ لبعض أنصار إحدى الحركات الميليشية اليمنية عبارات تبشيرية نحو:
سنصلي قريبا في الأقصى, وسنطوف سوية في الحرم المكي.. مع أن هذا المتكلم يعد نفسه ليبراليا؛ حينها أمسك على قلبي فزعا من هول المصيبة!
من السمات الأساسية في اتباع الحركات الجماهيرية كراهيتهم لذواتهم, ورغبتهم في الهروب منها, وسعيهم للتماهي والذوبان في المجموعة, لأن ذلك يكفيهم مؤنة القيام بتصحيح أمور حياتهم اليومية المكللة بالفشل!
إنهم ينضمون للحراك الجماهيري المتسم بالفوضى والرفض لأية تسوية؛ لكي يفنوا؛ وليغيبوا عن ملاحظة إحباطات فشلهم في الحياة.. يستميتون ليصبحوا مجرد ذرات في مهب إعصار ساحق؛ فهناك ليس ثمة مقارنات, أو قياسات, أو فضح لعجزهم, واكتشاف لعدم قدرتهم على صنع حياة ناجحة!
يستغل قادة الحركات الجماهيرية شوق أفرادهم لإنكار الذات وإفنائها في سبيل قضية مقدسة _ حتى لو كانت وهمية _ لدفعهم نحو الموت والقتل والتخريب, وهم راضون !
لدينا العديد من مثل هذه الحركات في اليمن؛ فثمة " حراك في الجنوب, وحراك في الشمال, وحراك في الوسط "!
يقرر الباحثون في هذا الشأن بأنه ليس ممكنا تغيير قناعات هذه الحركات الجماهيرية, ولكن يمكننا استمالة الأفراد للانخراط في حراك مضاد!
ولن تتوقف أنشطة الحركات المتسمة بالفوضى والعنف إلا إذا تحولت لمؤسسات أو أحزاب أو منظمات..
يجتهد قائد الحركة الراغب في بقائها متقدة, وإبقاء أتباعه ماضون خلفه كالمغسولة أدمغتهم, إلى عدم تأطيرالحركة بأي شكل من هذه الأشكال؛ ليحتفظ بنوع معين من الأتباع, ممن لا يمكنه العيش دون صراع !
إنهم الساخطون دوما والمتذمرون إلى ما لا نهاية, وليس ثمة شيء يرضيهم سوى ذلك الحلم الخارق الذي يحتل كل مساحة من تفكيرهم, وكل بقعة من عوالم خيالهم الخصب, حلم منبعه المستحيل, ومكانه دوما المستقبل البعيد؛ لذلك هم دوما يخربون الحاضر من أجل الوصول لذلك المستقبل, والذي لو تمكنوا من بلوغه فسوف يكون كثير منهم في قمة التعاسة؛ لأنه لم يعد جزءً من الكل؛ بل أصبح فردا مستقلا, مسؤلا, تتسلط عليه الأضواء, ويطالبه الأخرون بالقيام بدوره في بناء الوطن كايّ مواطن صالح معتدل؛ حينها ربما قد يقدم على الانتحار, أو يهاجر لينضم لحراك أخر في بقعة أخرى من بقاع الأرض.!
إنهم إحدى أقبح خطايا النظام البائد, وبعضا من مفرزات الحكم الماضي الفاشل..
قصتهم ملحمة طويلة من ضياع, وإحباط, وعدم تعايش مع النفس, وعدم رضا عن الذات..إنهم بؤساء لدرجة الرضا بالانتحار من أجل قضية مقدسة وهمية..!
وهم يمثلون اليوم المعضلة الأعقد لليمن الحديث!
نبيلة الوليدي
خطيئة الماضي الكبرى ..!! 1842