يمرّ العالم العربي منذ مدة -وخاصة منذ ثورات الربيع العربي- في دوامة سببها الأساسي عدم رجوع النظم العربية إلى العقل والمصلحة العربية العليا، وانحراف البوصلة والاستتباع والإملاء السياسي. فلا يجادل أحد أن المنطقة فيها ثلاثة مشروعات كبرى هي: المشروع الصهيوني، ثم ظهر المشروع الإيراني، وأخيرا المشروع التركي.
وقد عجز العرب عن إعداد مشروع عربي، فكل هذه المشروعات تعمل في الجسد العربي وفي الملاعب العربية، بل نجحت هذه المشروعات في إشاعة مظاهر التشتت والاستعانة بأطراف كل البلاد العربية، وكل طرف يعتقد أنه يخدم الأمن القومي والوطني لبلده، وكانت النتيجة الفشل العربي في صياغة مشروع عربي، يحدد موقف العرب من المشروعات الثلاثة، والارتقاء إلى المصلحة العربية العليا، التي يقف خلفها المشروع العربي، ويتقدم على ما سواه.
هذه المصلحة هي باختصار المحافظة على المجتمعات العربية وقيمها الأصلية، والتنوع في إطار واحد جامع هو العروبة والإسلام، والمحافظة على النظم السياسية وتطويرها وترشيدها بحيث تستقل عن القوى الكبرى، وتجعل مصالح وطنها الصغير والكبير هو أولويتها المطلقة، وترتيب المصالح العربية بالاتفاق فيما بينها.
هذه المصلحة العربية العليا يهددها اليوم ضياع البوصلة العربية الواحدة مما أدى إلى ضياع البوصلة الإقليمية العربية، وتوحش الإرهاب بمفهومه العام وليس المفاهيم المختزلة لكل دولة عربية على حدة، على أساس التمييز القاطع بين الإرهاب الذي يستهدف النظام بسبب سياساته وأعماله، وبين الوطن الذي يمثل العنصر الدائم والإطار الجامع لمواطنيه. والإرهاب يهدد قيم المجتمعات العربية، ويمزق الأوطان العربية، لأن بعض النظم العربية قدمت مصالحها على مصالح الوطن، ووظفت الإرهاب في سياساتها الإقليمية.
والثابت لكل مراقب أن العالم العربي في بداية عام 2015 فقد البوصلة وأصابته الحمى، وصار في حالة تنويم مغناطيسي فألغى العقل والتدبير واتسم بقصر النظر، فأراه اليوم تتفاقم حالته وتتدهور أوضاعه، وهو يجاهد لوقف التدهور بسياسات وأساليب تفاقم المرض وتوشك أن تقضي عليه.
ولعل واشنطن -المساندة للمشروع الصهيوني- قد نجحت في صرف العالم العربي عن خطر هذا المشروع، فسعت إلى تفتيت العالم العربي، وجعلته يضرب بعضه بعضا، وبالقطع فإن الثورات العربية هي ضحية هذه السياسة الخبيثة.
والعجيب أن كل الدول العربية تدرك ذلك ومخاطره، ومع ذلك يسهم موقفها من قضايا المنطقة في تأزيم الحالة العربية. فالمشروع الصهيوني هو الأساس، ولكن المخطط الصهيوني الأميركي المدروس اعتمد على الاستتباع العربي لواشنطن، وعلى أزمة الشرعية في النظم، وقاد حملة معاكسة لمطالب الشعوب العربية في ثورات الربيع العربي، حتى دفع هذه الشعوب إلى الترحم على النظم التي ثارت عليها، مما أدى إلى نشأة تحالف جديد بين بعض النظم في المنطقة وهذا المشروع الصهيوني.
هذا الالتقاء في المصالح أذكى صراع المشروعات الإقليمية الأخرى. فالمشروعان الإيراني والتركي يشعران بأنهما يلتقيان عند مناهضتهما للمشروع الصهيوني، ويشعر كل منهما بأنه أولى باللحم العربي من إسرائيل. وقد شجعت واشنطن هذا الشعور أيضا لديهما، وغيرت سياستها تجاه إيران، فبدلا من حصارها، عمدت إلى إرسال الضوء الأخضر لها، وكلا المشروعين الإيراني والتركي يستمدان مشروعيتهما عند الشعوب العربية من مناهضتهما لإسرائيل، أما إسرائيل فهي تناهض الجميع وتسعى إلى إحراق المنطقة.
فقد نجحت إسرائيل في إفشال الثورات العربية، ودعمت قوى الثورة المضادة، فأسهمت بذلك في ظهور الإرهاب يأسا من العدالة واستنهاضا لأمة يضربها الإرهاب نفسه، وتحترق الأمة بكل أطرافها به، ويضيع أفضل شبابها إما كمدا من ضياع العدل، وإما يأسا من عدالة السماء، وإما انتقاما لما لحق بهم من سوء، وإما انحرافا بالسلوك عن الفكر السليم والقصد النبيل، وكلها صور للانتحار لضياع الأمل.
فالنظم التي أحبطت آمال الشعوب التقت مع إسرائيل في تحويل الصراع من كونه عربيا ضد اغتصاب إسرائيل للحقوق العربية وتآمرها عليها، إلى صراع بين العرب، وبين المسلمين، ويتقدم ذلك الصراع السني الشيعي، وهما أتباع دين واحد، ولكن ذلك يسهل باستغلال أوضاع الدول العربية والإسلامية.
وإذا نظرنا إلى المآلات فإن إيران وتركيا هما الأقرب للعرب، وهم أبناء المنطقة، بينما إسرائيل معول هدم للمنطقة ومصالحها لضرب العروبة والإسلام كرباط وهوية لهذه المنطقة. ومن أسف أن بعض النظم قد غلبت عليها رؤاها المحدودة، ولم تستشرف الصورة الكلية، فتسعى إلى تعقيد الموقف والإجهاز بعملها على ما يتبقى من عروبة وإسلام، فتسعى إلى دق طبول الحرب الرسمية بين الشيعة والسنة، عن طريق إنشاء محور سني مقابل المحور الشيعي، ويدخل تركيا في هذا المحور، رغم أن العلاقات التركية الإيرانية لم تتصادم حتى الآن سوى في سوريا المحترقة، التي أحكمت إسرائيل وأميركا إدخال المنطقة إليها.
فهل هناك إرهاب متفق عليه بين المشروعات الثلاثة؟ إيران وتركيا يدعمان المقاومة ضد إسرائيل؟ بينما لا يتحمس العرب للمقاومة ضد إسرائيل، بسبب الفرز الطائفي في حالة حزب الله، والفرز السياسي في حالة حماس. وفي جنبات العالم العربي نداءات لإنشاء قوة عربية لمقاومة الإرهاب، رغم أن لكل إرهابه، وكل مسؤول عن صناعته، وكل لا يتفق على عدو مشترك، رغم أن العدو المشترك المقصود ضمنا هو إيران وليس إسرائيل أو تركيا.
الحل عندي هو أنه ما دامت إيران مرشحة لكي تكون الطرف الآخر في المعادلة في الخليج، على الأقل مع واشنطن، وأن تفرض الأوضاع الجديدة على الخليج كله، وما دامت واشنطن تحرض من ناحية أخرى ضد المد الشيعي أو المشروع الإيراني، وأن تقاربها مع إيران ليس حبا فيها، وإنما جزء من الكيد لها وإطار سلمي لنخر قوتها، فإن الوقت قد حان لنفض الهيمنة الأميركية، وإنشاء مشروع عربي يعلي المصلحة العربية العليا ويحفظ الأوطان العربية، ويسعى إلى عزل المشروع الصهيوني الخبيث المتدثر بواشنطن، والإعداد لحوار ثلاثي بين المشروع العربي الجديد، والمشروعين الإيراني والتركي، وبغير ذلك تتحمل النظم العربية مسؤولية ضياع ما بقي من العالم العربي.
ليس ذلك نداء إلى الحكومات العربية فقط، ولكنه كلمة حق في وجه سلطان جائر، أردنا بها أن نسجل لشباب الأمة طريق الخلاص مما هي فيه، وما هو مخطط لها. المطلوب الآن ممن بقي من المثقفين الشرفاء أن يدرسوا كيفية التئام الجسد العربي وأسباب عافيته، وإنشاء مشروع عربي واضح القسمات يتميز على الإيراني والتركي بأنه ليس توسعيا، وإذا قام المشروع العربي انكمش المشروع الصهيوني والإيراني والتركي، لأن الملاعب العربية هي ساحات هذه المشروعات الثلاثة.
العدو الدائم لديكم هو إسرائيل التي لا تتورع عن التحالف مع إيران وتركيا للقضاء على العرب، حتى تصبح أرضهم ساحة المعركة الجديدة بين المشروعات الثلاثة في غيبة أصحاب الأرض. وأظن أنه لا ينقص العرب سوى الرجوع إلى العقل، والارتقاء بالنظرة الكلية بعيدا عن التكالب بين النظم التي تنهي الوجود العربي لصالح المشاريع الأخرى.
لقد سعدت إسرائيل بالتخبط العربي، وعمدت إلى استكمال مشروعها في القدس وفلسطين، وتسعى إلى اقتلاع المقاومة التي دقت لها إسفينا يناسب المقاومة الشيعية والمقاومة السنية، المجمعة على الدفاع عن حقوق العرب.
عبدالله الأشعل
مخاطر غياب المشروع العربي بحضور مشاريع إقليمية 1400