منذ نحو عقدين من الزمان أحيلت قضايا السودان إلى غرفة الإنعاش الأفريقية؛ ولم يعد للجامعة العربية أي مساهمة تذكر، عدا مساهمة دولة قطر في توقيع ومتابعة السلام في دارفور، وهي مساهمة تبنتها وبادرت بها قطر.
ولعل الحكومة السودانية مدينة بشدة لمواقف الاتحاد بشأن عدد من قضايا البلاد الراهنة، منها موقفه من المحكمة الجنائية الدولية التي تسعى لمحاكمة الرئيس عمر البشير الذي تتهمه بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور. وذلك على عكس مواقف الجامعة العربية التي تثير قلق الخرطوم؛ ففي القمة العربية الأخيرة في نواكشوط 25 يوليو/تموز الماضي طالب البشير الجامعة العربية بموقف مماثل لموقف الاتحاد الأفريقي الذي كان قد اتخذ قرارا بعدم التعامل مع المحكمة، بيد أن الجامعة لم تتخذه موقفا كهذا.
كذلك اتخذ الاتحاد الأفريقي قرارا دعا فيه الدول الأعضاء لعدم الالتزام بالعقوبات الأميركية، ووجه بتكوين آلية لمتابعة تنفيذ قراره، والعمل على رفع العقوبات الأميركية. وهذا أيضا لم يحدث من جانب الجامعة العربية.
في آخر انتخابات رئاسية وبرلمانية في أبريل/نيسان 2015 أعربت بعثة الاتحاد الأفريقي لمراقبة الانتخابات في السودان عن رضاها التام عن العملية الانتخابية.
طبيعة انتماء السودان
قد تطرح أسئلة شائكة حول هوية السودان، هل هي عربية أم أفريقية؟ والحقيقة أن رياح السياسة تسوقها ليبدو الانتماء مرة أفريقيا وتارة أخرى عربيا. ويدور جدل مستمر بين قطاعات ونخب سودانية منذ عقود طويلة حول عروبة وأفريقية السودان، ويؤسس الرافضون لعروبته وهم قلة تعوزهم الحجة القوية، مواقفهم على حديث متواتر عن رفض بعض الدول العربية مساعي السودان للانضمام إلى جامعة الدول العربية العام 1958، ويتندرون على الاقتراح الذي طرح في ذلك الوقت بتسمية الجامعة "جامعة الدول العربية والسودان".
ولعل الرفض الكامل لعروبة السودان يبلغ حدا من المغالاة والتطرف الذي يقع ضمن التوجه "الأفريقاني"، بينما في الحقيقة لا يوجد أي تعارض بين عروبة السودان وأفريقيته في آن واحد.
وهناك من يؤكد أن العروبة في مفاهيمها القومية بعُدت عن العنصرية وأصبحت أسسها ثقافية لغوية تضم أعراقا شتى فيهم الأبيض والأسود وما بينهما من ألوان، واكتسبت مضامين اجتماعية وتحررية لاسيما إبان حركة القومية العربية وحركات التحرر في أفريقيا. فضلا عن أن فكرة الزنجية قد نشأت في غرب أفريقيا وفيها تحولت نحو "الأفريقية" وكانت ردة فعل على الاستعمار الغربي وتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي.
ويذهب الرئيس الغيني الأسبق أحمد سيكتوري إلى أن "الأفريقية" إنما كانت وسيلة للاتحاد ضد الاستعمار، لكن بعد نيل الشعوب الأفريقية لسيادتها أصبحت دعوة تقسيم وتفرقة تخدم مصالح الإمبريالية وتضعف الجبهة المناهضة للاستعمار الذي ما زال يتبدّى في أشكال مختلفة. ومن هنا برز مفهوم "الأفروعربية" أو "الأفرابية". وهو المفهوم الذي طرحه المفكر الكيني علي المزروعي، ويقوم على نسيان رواسب الماضي في العلاقات بين العرب والأفارقة وإبراز جوانب التداخل والترابط الثقافي والحضاري بينهم.
ربما كان أفضل سبيل للتعامل مع قضية الهوية في السودان بثرائه وتنوعه الإثني هو الاعتراف بهذا التنوع والتعدد، فالسودان ليس شعبا واحدا، بل أمة مؤلفة من مجموعات عرقية وقبلية ما زال بعضها في طور التشكل. ولذا فالتكن إرادة العيش المشترك هي التي تؤلف بين جميع المكونات.
كثير من المفكرين السودانيين يبنون إسهاماتهم وافتراضاتهم بشأن الهوية في السودان على حقيقة أن السودان ليس معبرا للثقافة العربية والإسلامية نحو أفريقيا، باعتباره يقع تاريخيا في الدائرة الأفريقية والعربية والإسلامية، بل هو جسر ذو اتجاهين؛ ناقل للمؤثرات العربية الإسلامية للقارة الأفريقية وفي ذات الوقت ناقل للثقافة الأفريقية للمجال العربي. ويرون أن السودان منذ القدم عبارة عن بوتقة، أو (أفريقيا مصغرة). فهذه الخائص جعلت السودان مؤثر جدا في المجالين العربي والأفريقي، ويستطيع خدمة التكامل الأفريقي العربي في كافة المجالات.
حلول ومعالجات أفريقية
ظل الاتحاد الأفريقي يتولى مهمة إيجاد حلول للأزمات السودانية المتفاقمة. ولا تكاد تمر أسابيع أو شهور إلا ويحل وفد من الاتحاد الأفريقي ضيفا على الخرطوم، ليبحث مع المسؤولين مبادرات تسعى لحل أزمات البلاد. لقد كان دور الاتحاد الأفريقي قويا وواضحا تجاه العديد من القضايا التي مازالت تعصف باستقرار السودان خلال السنوات العشر الماضية، وشكل دورا موازيا لمنظمة الأمم المتحدة. وكان بقاء كثير من هذه القضايا في أروقة الاتحاد مصدر اطمئنان نسبي للحكومة السودانية.
وأخذ الدور الأفريقي في السودان في التصاعد مع توقيع اتفاقية أديس أبابا في العام 1972 بين نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري والتمرد الجنوبي. وتعتبر مبادرة دول الإيقاد الأفريقية في العام 1994 الأساس الذي على ضوئه جرت مفاوضات السلام في كينيا حتى كللت بتوقيع اتفاقية نيفاشا 2005، ويمكن الإشارة إلى أن تدخلا دوليا حدث باسم ما عرف بأصدقاء منظمة الإيقاد، فجاءت اتفاقية نيفاشا ببروتوكولاتها الأمنية والسياسية لتحقيق هدف إستراتيجي تمثل في فصل جنوب السودان في يوليو/تموز 2001، في ظل غياب للجامعة العربية.
يشار إلى أنه في أثناء طرح مبادرة الإيقاد تم طرح مبادرة مصرية ليبية مشتركة وهي تعتبر مبادرة عربية لم يكتب لها النجاح لكونها انحصرت في زاوية إبداء حسن النوايا، ولم تطرح إعلان مبادئ للحل مثل مبادرة الإيقاد، ونظر إليها البعض على أنها مبادرة لرفع الحرج عن العرب بسبب تجاهلهم قضايا دولة عربية مهمة.
وبعد الدور الأفريقي عبر مبادرة الإيقاد لعب الاتحاد الأفريقي دورا مهما وهو يسعى لإيجاد تسوية سلمية لأزمة دارفور التي بدأت في الظهور في العام 2003 من خلال نشر قوات سلام في الإقليم، بالإضافة إلى مشاركته كوسيط في مفاوضات سلام الدوحة.
وتعاظم دور الاتحاد بإرسال بعثة من قوات مشكلة من عدة دول أفريقية بدأت ببضع مئات وارتفع العدد إلى أن بلغ حاليا 7 آلاف عنصر.
لكن وبسبب نقص الإمكانات البشرية والمالية أعرب المجلس لاحقا في يناير/كانون الثاني 2006 عن نية نقل مهمة القوات الأفريقية (Amis) إلى الأمم المتحدة على أن يكون ذلك في إطار الشراكة بين الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة. ومارست الأمم المتحدة والولايات المتحدة ضغوطا على الاتحاد الأفريقي باعتبار أن ما يحدث في إقليم دارفور إبادة شاملة مع عدم قدرة الاتحاد على بسط السيطرة على الإقليم.
واليوم يرعى الاتحاد الأفريقي المفاوضات بين الحكومة السودانية والمعارضة بشقيها المدني والمسلح سواء في دارفور أو منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وتنص خارطة الطريق التي أعدها الاتحاد الأفريقي بعد مفاوضات ماراثونية مع الأطراف المعنية، على ترتيبات متعلقة بوقف إطلاق النار في مناطق النزاع المسلح، والدخول في عملية سياسية، وإشراك الحركات المسلحة في أعمال مؤتمر الحوار الوطني بالخرطوم.
فاعلية الاتحاد الأفريقي
مهما قيل عن ضعف الاتحاد الأفريقي فإن ذلك لا يقلل من النشاط الذي يضطلع به مقارنة بمنظمات إقليمية ربما كانت أوفر منه حظا سواء من حيث روابط الدين واللغة أو من حيث الإمكانات المادية.
وبنظرة سريعة لمجهودات الجامعة العربية بشأن قضايا الوطن العربي منذ تأسيسها في 22 مارس/آذار 1945، نجد مدى تواضع هذه المجهودات بل إن دورها في ضمور واضمحلال مستمرين. ففي هذا الإطار الزمني توسطت الجامعة في 12 من أصل 20 من الأزمات الإقليمية. كما تدخلت في 5 فقط من 22 حربا أهلية رئيسية. مع الإشارة بشكل خاص إلى أن الجامعة تقف اليوم عاجزة عن أي فعل إيجابي تجاه ما يحدث اليوم في العراق وسوريا واليمن وليبيا.
في المقابل تمكن الاتحاد الأفريقي من فرض عقوبات على عشر دول أعضاء هي جمهورية أفريقيا الوسطى، وساحل العاج، ومصر، وغينيا بيساو، وغينيا كوناكري، ومدغشقر، ومالي، وموريتانيا، والنيجر والتوغو. وعندما قام عبد الفتاح السيسي بانقلابه في مصر ضد الرئيس الشرعي محمد مرسي في 2013 علق الاتحاد عضوية مصر، بينما أرسلت الجامعة العربية أمينها العام في جولة دولية لتبرير ما حدث ودعوة العالم لدعم الانقلاب.
القمم الأفريقية منتظمة وتحظى بحضور كبير على مستوى رؤساء الدول الأعضاء؛ ففي القمة الأخيرة يوليو/تموز الماضي في رواندا حضر ثلاثون رئيس دولة أي بنسبة حضور فاقت 73%. ولا تقف الطموحات الأفريقية المشتركة عند الجواز الموحد الذي تمت المصادقة عليه فعليا، بل تتضمن إنشاء الولايات المتحدة الأفريقية بجيش أفريقي موحد. المفارقة الطريفة أن الجامعة العربية عقدت حتى اليوم 27 قمة رغم تأسيسها في 1945، بينما عُقدت حتى اليوم 27 قمة أفريقية منذ تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية في 1963.
إن وجود عشر دول عربية تجمع بين عضوية الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي يمكن أن يمثل دافعا قويا لمسيرة تعاون إستراتيجي عربي أفريقي، خاصة أن أكثر من نصف العرب يعيشون في أفريقيا (نحو 60%)، وأن 25% من الأفارقة هم عرب، وأكثر اللغات التي يتحدث بها أهل أفريقيا هي العربية، وسبق أن تم البدء في خطوات وئيدة لكن لم تنعقد قمة تضم الطرفين منذ أن انفضت القمة الأولى والأخيرة في 1977.
لقد كان لوجود دول عربية في الاتحاد الأفريقي مثل السودان والجزائر أهمية كبيرة في تعطيل الاندفاع الإسرائيلي نحو القارة الأفريقية؛ ففي يوليو/تموز الماضي بدأت إسرائيل نشاطا دبلوماسيا قويا في بعض العواصم الأفريقية حيث حل فيها رئيس وزراء إسرائيل طالبا ضم إسرائيل إلى الاتحاد الأفريقي بصفة مراقب، لكن تحركات سودانية وجزائرية أثمرت رفض الاتحاد استقبال نتنياهو على هامش زيارته لإثيوبيا، استنادا لثوابت ومبادئ ميثاق الاتحاد الذي يعتبر إسرائيل دولة احتلال وعنصرية.
ياسر محجوب الحسين
السودان..المنسي عربيا والمحتفى به أفريقيا 986