صدقكم القول أنّني، حين حملت على عاتقي التصدّر لهذا العنوان الضّخم، كنت مدفوعاً بالزّهو الخفيّ الّذي غالباً ما يعتمل في نفس من يقف على أعتاب ظهوره بالصّيغة الّتي اشتهاها. هذا الزّهو الّذي يمتدّ لأقاصيه حين تكون صيغة الظهور المشتهاة هذه هي طموح المرء لأن يصير أديباً. حينها، يغدو عذركم له شعوراً كهذا، أمراً محسوماً سلفاً. لأنّكم، لا شكّ، تدركون ما للأدب من بريق يخطف لبّ متلقيه، فضلاً عن الطامح لإبداعه. هذا البريق العذب- بريق القدرة على خلق تعبيرٍ كلاميٍّ يحوي تكثيفاً جماليّاً لمعنىً ما، بما يفوق قدرة الغالبيّة على ذلك، وبما يحقّق التفاتة جبريّة ملتذّة من نفوس المتلقّين لجانبٍ بهيٍّ من الوجود كان ليفقد شيئاً من ألقِه لو لم تتنبّه لبيانه شاعريّة الأديب_ هو السحر الّذي عناه النّبيّ بقوله: إنّ من الشعر لحكمة، وإنّ من البيان لسحراً. فإذا كان الثّابت الوحيد في الاجتماع الإنسانيّ هو التغيير، وهو ما يعبّر عنه بالقول: دوام الحال محال، فإنّ لهذا التغيير، بدوره، قِصّة ثابتة، هي: أنّه يبدأ فكرةً تلتمع في عقلٍ ألمعيٍّ، يهمس بها في جمعٍ مسؤولٍ، ينبري لها منهم مبشّرون، يكون الأدباء أكثرهم قدرة على لفت الانتباه الجمعيّ لجدوى هذا التغيير وجوانبه المشرقة. ثمّ تأتي، أخيراً، القوّة الماديّة الكفيلة بتثبيت هذا التغيير، كخاتمة نهائيّة ومحصّلة لما سبق. وأن يحدث التغيير وفقاً لهذه التراتبيّة، بما تحتاجه كل خطوةٍ منها من كثافة، هو ما يضمن له ديمومة وتجذّراً. وهذا من أكثر الأمور وضوحاً في تأريخ الأمم وسنن الاجتماع. ولن يجد المرء أيّة حضارة إنسانيّة بُنيَت، لم يكن الأدب إحدى ركائزها الأساسيّة والأدباء أهمّ بُناتها. وحين يكون التغيير الذي يعيشه مجتمع ما، هدّاماً، لا يمكن تصوُّر مقاومة له تفتقر للسانٍ يصدح بسموّ مبادئها وأخلاقيّة دوافعها، ولقلم يرسم الدّرب لخُطاها، مانحاً تلك الخطى ما تحتاجها من حماسة لإكمال المسير إلى الغاية. هذه الحقيقة، والّتي قد لا يدركها ويتنبّه لأهميّتها من يعصف به التغيير الهدّام في إبّانه، إلّا أنّه يجدها واضحة جليّة ما إن يلتفت للنّظر في أقرب حدث تأريخيّ أنتج تغييراً ما في مسيرة مجتمعهم. هنا، وعلى سبيل المثال، يمكنني طرح سؤال: هل يمكن لأيّ منكم تصوّر ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، منذ إرهاصاتها، دون أن تتبادر إلى ذهنه صورة أبي الأحرار الزبيري؟! ودون أن تصدح روحه بقصيدةٍ له أو باثنتين؟! هل يمكن لأحدكم ذلك؟! قطعاً: لا. وإذا كان اليمنيّون قد كافأوا الزبيري، لقاء نضاله الطويل من أجلهم، من أجل حريتهم وكرامتهم، بلقب أبي الأحرار، فإنّما هم بذلك أعطوا الأدب ما يستحقّها من قيمة، باعتباره الأقدر على تصويب الوجدان الجمعيّ لقيم النّضال والتضحية والفداء من أجل الخلاص إلى الحريّة المنشودة. ولأنّ ثورة الزبيري وجيله، آبائنا، تعرّضت عبر عقود ماضية للتجريف من فلول الإمامة، إلى أن نُصِبت مشنقتها بالانقلاب المشؤوم على الجمهوريّة، فقد كان مقتضى ذلك أن الأدب لا بد وأن تكون له كلمته بهذه المعركة الطويلة، ابتداءً من فصولها الباردة، مروراً بانفجارها في الـ 2014، وإلى الآن. والّتي كان البطل الشهيد الأديب نايف الجماعي من أركانها الركينة. لماذا أمكنني القول أنّ الشهيد نايف الجماعيّ، بالذات، رائداً لهذا المسار؟ لأنّه كان الصوت الحاضر دوماً في الساحة النضاليّة لمجتمعه، منذ بداياته الأدبيّة، ابتداءً من وجوده طالباً في جامعة صنعاء، كعضو فاعل في الاتحاد الطلابيّ، مروراً بنضال الشعب لإرساء قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في الإرهاصات التي سبقت ثورة الـ 2011، وعروجاً بالثورة نفسها، وانتهاءً بتضرّجه الفادي لحقّ هذا الشعب في العيش حراً كريماً؛ لأنّه آثر الوقوف بجانب القيمة رغم ما تحملها من الأهواء واحتمالات خطر. و الذي كان بمتناوله أن يدير ظهره لآلام شعبه والرحيل لبلاد أخرى تقيه كلّ هذه المشاق وتمنحه ترف الاستجمام الهانئ، كما فعل غيره كثير. ولم يكن ليلومه أحد، كما لم يُلاموا؛لأنّه لم يكتفِ بأن يصدح بفضيلة الحريّة ومقاومة الخطر المترصّد لها بالكلمة فقط، مثل أغلب أدبائنا قديماً وحالياً، المستندين لصوابيّة أنّ على المرء أن يفعل فقط ما يحسن ويجيد، وأنّ النّضال بالكلمة والقلم لحاملها يسقط عنه واجب حمل السلاح للصّد عند الّلزوم، بل جعل من كلماته أجنحةً رفرف بها في سماوات الفعل المترجِم. فكان هو الأديب قولاً وفعلاً. وهذا هو الإعجاز الذي حققه ببطولة قلّ أن نجد لها نظيراً في القديم أو الحديث. نايف الجماعي، وحده، عرّج بهذه القيمة، قيمة مطابقة الكلمة المتألّقة بما يوازيها من فعل متألّق، فحقق الكمال الأسمى الّذي لا يطيقه سوى الأنبياء فالأمثل فالأمثل. وليس ثمّة من برهان على كمال النّفس الأديبة من جعلها لإمكانيّاتها التعبيريّة رهن تداعيات الّلحظة الاجتماعية ومقتضياتها، ومنحها، من ثمّ، الترجمة بالأفعال، لإكسابها الحدود القصوى من المصداقيّة. هذه الميزة وحدها من تمنح الأديب لقب الرّائد، وهي الميزة التي تصدّى لها نايفنا باقتدار. والتي جعلت من موته ميلاداً جديداً محفوفاً بالأبديّة، اخترقت رصاص الغلّ جسده، فوارته الثّرى. وارت عنّا جسده. لكنّها منحت وجوده فينا ألقَ سِربٍ من الشموس، شموس لن تنطفئ أبداً. وها نحن اليوم، نقف، لا لإحياء ذكرى استشهاده، فهو لم يمت ليحيا، بل للطواف حول شموسه المنيرة والدّافئة، نتضمّخ بما يمكننا من إشعاع كلماته وضياء سيرته. نفعل ذلك رافعين رؤوسنا إلى السماء، حيث هو الآن، مردّدين خلفه نشيده العذب، نشيد العزّة والكرامة: قف مع الروح عند نكءِ الجراحِ واقصد الجدّ، فات وقت المزاحِ حصحص الحقّ، والفريضة أضحت عين يا صاح، قم لشحذ الجماحِ قم بنا اليوم نبتغي درب عزٍّ يكمن العزُّ تحت حدِّ السلاح نطلب الموت بين طعن وضرب قبل موت الوَنى وكسر الجناحِ نطلب العزّ رغم ذل وعار حاق بالقوم من جميع النواحي
عبدالله شروح
دور الأديب في صناعة التحوّلات الكبرى 932