يمر العالم اليوم بمرحلة انتقالية هي الأصعب في التاريخ حيث لا قانون ولا نظام دولي يضبط تصرف الدول، ويحد من عدوانها وأطماعها.
وفي ظروف كهذه تتحول المشاريع السياسية الطامحة إلى ظواهر استعمارية توسعية، تبسط نفوذها وثقافتها على مجتمعات أخرى محاولة هضمها وإعادة إنتاجها ضمن جسدها القومي.
وفي مراحل التحول التاريخي والانتقال الحضاري للعالم تصبح الدولة كائنا حيا متحركا بمقدار ما تستطيع الوصول إليه من نفوذ وهيمنة، وقد تذوب وتختفي دول وتظهر أخرى، وتكبر دول صغيرة، على حساب دول كبرى تتقازم فتنمحي، حيث إن أبرز خصائص مراحل الانتقال الحضاري أن تنهار إمبراطوريات شائعة مركزية، لتفسح المجال لصالح إمبراطوريات أخرى صاعدة فتية، وربما انتقل معها مركز الحضارة من جهة إلى أخرى في الكوكب.
وبالنظر في حالة إسرائيل وإيران نجد الدولتان تتشاركان في خصائص كثيرة، منها الخصومة التاريخية مع العرب، والرغبة في التوسع على حساب الوجود العربي، وكلاهما استنبات غربي، ويشكلان أداة استراتيجية لمشروع الهيمنة الأمريكية على الشرق والبلاد العربية وفقا لرؤية الشرق الأوسط الجديد، ويلتقيان في استراتيجية واشنطن والغرب كأدوات تنفيذية.
ومع ذلك فكلتا الدولتين لديها مشروعها الخاص الذي يرمي لإقامة إمبراطورية قومية تهيمن على الشرق العربي، وتحل بديلا سياسيا للوجود العربي، حيث تطمح إسرائيل في إمبراطورية قومية لليهود من الفرات إلى النيل ومن الشام إلى جزيرة العرب تستجمع عناصر الشعب اليهودي من الشتات بعد تهجير وقتل العرب، في حين تطمح إيران في إمبراطورية قومية ساسانية جديدة تهيمن على العراق وأجزاء من الشام والجزيرة العربية.
لقد اشتغلت إيران طوال ٤ عقود حليفا من الباطن لأمريكا وإسرائيل، وكانت هي المفتاح الأول والأخير لتمزيق المنطقة وخلق شرق أوسط جديد بصورته الطائفية، ولا تزال الحاجة الأمريكية لإيران قائمة رغم إظهار تحالفها مع الصين وروسيا، لأن أمن إسرائيل وتوسعها مشروط باستمرار الصراع العربي الفارسي، كما أن إيران لا تزال تعمل على تفتيت دول المنطقة لصالح الرؤية الأمريكية الهادفة لإبقائها مشتعلة ومفككة لتقطع الطريق على الصين ومشروعها العالمي مبادرة الحزام والطريق.
وبالمثل لا تزال حاجة إيران لأمريكا وإسرائيل قائمة وملحة لاستعادة أحلامها الساسانية عبر استكمال مشروعها الطائفي في المنطقة بغطاء غربي.
وبالنظر في أحداث الحروب والصراعات التي دارت في بلدان عربية منذ ٢٠١١ وحتى اليوم نجد الكاسب الوحيد فيها إيران وإسرائيل، فكلما توغلت إيران في الشعوب العربية ودعمت مليشيا طائفية إرهابية لإسقاط دولة، كلما جد العرب في التقرب من إسرائيل واعتبارها حليفا استراتيجيا ضد إيران، ومن ثم القبول بالتنازل لها عن فلسطين والقضية الفلسطينية، وإلغاء وتجميد دوافع الصراع القومي والثقافي والقبول بدمج إسرائيل في المجتمع العربي.
وحتى حرب إسرائيل الراهنة على غزة ستكسب منها إيران كما تكسب منها إسرائيل، فكلما أجرمت إسرائيل وأوغلت في دماء الفلسطينيين، زايدت إيران على الدول العربية باسم محور المقاومة، واجتذبت عواطف الشعوب البسيطة، بادعاء أنها من تدافع عن فلسطين والمسجد الأقصى كذبا، وبذلك تتمكن من تجميل فصائل ميليشياتها الطائفية، وتحرض بقية الشعوب العربية ضد الحكومات والأنظمة، تمهيدا لغزوها بالطائفية وإسقاط ما تبقى من دولها الوطنية، وهذا في ذات الوقت يحقق طموح إسرائيل في الهيمنة على المنطقة.
وفي ظل هذا التخادم الاستراتيجي يستبعد أن تذهب إيران وإسرائيل لحرب ضدية، لأن أي حرب تخوضها إيران أو إسرائيل لا بد من أن تكون موجهة ضد العرب، أو تقاتل بهم.
وبما أن المنطقة العربية تمر بحالة انهيار وتمزق داخلي جراء التدخلات الإيرانية والسياسات الأمريكية الإسرائيلية، واللون الطائفي الذي حل بديلا عن الدولة، فإنها من وجهة نظر إيران وإسرائيل قد أصبحت يانعة القطاف، وفيدا ومغنما، خاصة في ظل حالة الانتقال والفوضى التي يمر بها العالم اليوم، حيث من الممكن للمشاريع السياسية الطامحة إعادة صياغة وجودها على جغرافيا أوسع من وجودها السياسي القومي.
ومن هذا القبيل ربما قررت إيران الحياد في أحداث غزة كيلا تذهب لحرب إقليمية تكون فيها هدفا للغرب، في وقت لا تزال تحلم بالتوسع والانتشار، مع إمكانية الاستفادة من حرب إسرائيل على فلسطين والدعم الغربي لإسرائيل في كسب الشعوب العربية والتهيئة النفسية للقبول بميليشياتها الطائفية.
ومن ثم فإن توسع إسرائيل وتصفية القضية الفلسطينية لن يضر إيران على المدى الاستراتيجي، وإن كان البعض يرى أن لبنان ستكون بعد غزة مباشرة، لكن المسألة في الحقيقة ليست كذلك لأن حزب الله لا يشكل مقاومة لبنانية خالصة تدافع عن قضية تحرر وطني كفصائل فلسطين، بل هو جناح عسكري من الحرس الثوري وجد لأغراض التوسع والنفوذ الإيراني في الشام وبلاد العرب، وإذا فإن قراره سيخضع للاستراتيجية الإيرانية وخارطة تقاسم المصالح مع الغرب وإسرائيل، وليس للإرادة اللبنانية، وسيظل مجرد أداة ضغط للوصول لصيغة تقاسم إيرانية إسرائيلية.
وإذا فإن حرب غزة وإن أدت إلى تصفية القضية الفلسطينية لن تغرق إيران في حساباتها الاستراتيجية، بل ستغرق العرب وحدهم، ستغرقهم بالمهجرين، وستغرقهم بتبعات انتقال المقاومة الفلسطينية لبلدان مجاورة لإسرائيل، وبصراعات مع شعوبهم الهائجة عواطفها، والتي قد تثور عليهم لأنهم بنظرها خذلوا فلسطين وغزة والأقصى، وهو ما سيحقق الأهداف المشتركة لإسرائيل وإيران على السواء.
وحينها ستنفرد إيران وإسرائيل بالمنطقة، وقد يجلس الطرفان على الطاولة براحة البال، ويمسكان القلم والمشرط ويعيدان تقسيم المنطقة كما فعل وزيري بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سايكس بيكو.
إذا ما سمح العرب بتصفية القضية الفلسطينية وتهجير سكان غزة، فإن مصر ستغرق في سيناء والمهجرين إليها، وستغرق معها الأردن، وبعض الدول العربية، وستدخل المنطقة في فوضى تدفع بها انتفاضات شعبية، وحينها ستلتقي المطامع الإيرانية والإسرائيلية في أجواء الفراغ العربي، لتقاسم المصالح والغنائم وبمباركة غربية، وستكون أول تلك الغنائم تقاسم جغرافيا بلاد الشام وإلحاقها بإيران وإسرائيل.
إن هاجس العرب لدى الغرب وأمريكا يشكل فزاعة كبرى كما هو لدى إيران، رغم حالة الضياع والانهيار والتفكك التي يعيشها العرب، فالتاريخ يخبرهم أن انكسار فارس والروم كان على يد قبائل خرجت من صحراء جزيرة العرب، وأن من الممكن تكرار ذلك في دورة تاريخية قادمة، خاصة إذا ما تمكن الشرق الأقصى من الانتصار في معركته مع القطبية الأمريكية.
إنهم يدركون تماما أن الشرق الأقصى حبيس وقصي عن مركز الصراع الحضاري في قلب العالم والهلال الخصيب والممرات المائية، وأن انتقال مركز الحضارة شرقا إن حدث لن يدوم طويلا، وفي أغلب الأحيان أقل من قرن كما هو الحال في إمبراطورية التتار التي تبخرت خلال ٨٠ عاما.
وإن الشرق الأوسط سيتهيأ بعد ذلك لدورة تاريخية بديلة عن الغرب لما لا يقل عن خمسة قرون، بنفس المقدار الذي تفرد فيه الغرب على العالم منذ القرن السابع عشر.
لذا فإن الاستراتيجية الغربية ذهبت باكرا لاستخدام إيران واستزراع إسرائيل كوكلاء إقليميين لسياساتها في الشرق الأوسط والبلاد العربية، فإيران وإسرائيل في ميزان الصراع والمنافسة الحضاري تشكل إعاقات دائمة للعرب ما دامتا باقية.
ولأن الغرب اليوم قد بات يشعر بالمنافسة الحقيقية جراء الصعود الصيني، وعودة الانقسام في العالم إلى قطبين ومحورين، فقد قرر تصفية الوجود السياسي العربي من خلال هدم الدولة الوطنية واستبدالها بدويلات الطوائف، وتوسيع نفوذ إسرائيل وقوميتها وثقافتها الإبراهيمية المدعاة، ومنحها التحكم باقتصاد المنطقة، وتقسيم العرب بين إسرائيل وإيران كنفوذ واتباع.
أما الجزيرة العربية فقد يغرقونها بهجرة الهنود والآسيويين، ليؤسسوا بذلك لتغيير ديموجرافي وجيوسياسي آخر كمرحلة لاحقة تنهي الوجود العربي برمته، وهذا ما تشير إليه الخطة الأمريكية الجديدة التي تقترب من الهند كرؤية استراتيجية اقتصادية وسياسية، ذلك أن الهنود دوارون تاريخيا في فلك الغرب، وقد سبق للغرب في القرن الثامن والتاسع عشر أن أستخدم الهند في غزو عدد من شعوب العالم ومنها الجزيرة العربية.